كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين، جديرة بالوقوف أمامها طويلًا. ولكننا في هذه الظلال لا نملك إلا أن نشير إليها إشارات مجملة:
السمة الأولى: هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين.. فهو حركة تواجه واقعًا بشريًا.. وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي.. إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية؛ تقوم عليها أنظمة واقعية عملية؛ تسندها سلطات ذات قوة مادية.. ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه.. تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها؛ تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات؛ وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبدهم لغير ربهم الجليل.. إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي. كما أنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد.. وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده كما سيجيء..
والسمة الثانية في منهج هذا الدين.. هي الواقعية الحركية. فهو حركة ذات مراحل. كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية. وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها.. فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة. كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة.. والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد، ولا يراعون هذه السمة فيه، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها.. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطًا شديدًا؛ ويلبسون منهج هذا الدين لبسًا مضللًا، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية. ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصًا نهائيًا؛ يمثل القواعد النهائية في هذا الدين. ويقولون- وهم مهزومون روحيًا وعقليًا تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان-: إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع! ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلًا بتخليه عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعًا، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته. ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة.. بعد تحطيمالأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها..
والسمة الثالثة: هي أن هذه الحركة الدائبة، والوسائل المتجددة، لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة، ولا عن أهدافه المرسومة. فهو منذ اليوم الأول- سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين، أو يخاطب قريشًا، أو يخاطب العرب أجمعين، أو يخاطب العالمين، إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة؛ ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد.. هو إخلاص العبودية لله، والخروج من العبودية للعباد.. لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين. ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد، في خطة مرسومة؛ ذات مراحل محددة؛ لكل مرحلة وسائلها المتجددة. على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة.
والسمة الرابعة: هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى- على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن زاد المعاد. وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه؛ أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي، أو قوة مادية. وأن تخلي بينه وبين كل فرد، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته. ولكن لا يقاومه ولا يحاربه! فإن فعل ذلك أحد كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله أو حتى يعلن استسلامه!
والمهزومون روحيًا وعقليًا ممن يكتبون عن الجهاد في الإسلام ليدفعوا عن الإسلام هذا الاتهام يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه؛ والتي تعبد الناس للناس؛ وتمنعهم من العبودية لله.. وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما.. ومن أجل هذا التخليط- وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة!- يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم: الحرب الدفاعية. والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك.. إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة الإسلام ذاته، ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قررها الله؛ وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات.
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد- ومن العبودية لهواه أيضًا وهي من العبودية للعباد- وذلك بإعلان ألوهية الله وحده سبحانه وربوبيته للعالمين.. إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها؛ والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور.. أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور.. ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أربابًا من دون الله.. إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله؛ وطرد المغتصبين له؛ الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم مقام الأرباب؛ ويقوم الناس منهم مقام العبيد.. إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض.. أو بالتعبير القرآني الكريم: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله}.
{إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم}.
{قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.
ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم- هم رجال الدين كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال في ما يعرف باسم الثيوقراطية أو الحكم الإلهي المقدس!- ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة؛ وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة.
وقيام مملكة الله في الأرض، وإزالة مملكة البشر. وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده. وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية.. كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان. لأن المتسلطين على رقاب العباد، المغتصبين لسلطان الله في الأرض، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان. وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض! وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- وتاريخ هذا الدين على ممر الأجيال!
إن هذا الإعلان العام لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله، بإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين، لم يكن إعلانًا نظريًا فلسفيًا سلبيًا.. إنما كان إعلانًا حركيًا واقعيًا إيجابيًا.. إعلانًا يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله؛ ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك.. ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل الحركة إلى جانب شكل البيان. ذلك ليواجه الواقع البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه.
والواقع الإنساني، أمس واليوم وغدًا، يواجه هذا الدين- بوصفه إعلانًا عامًا لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله- بعقبات اعتقادية تصورية. وعقبات مادية واقعية.. عقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة.. وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد..
وإذا كان البيان يواجه العقائد والتصورات، فإن الحركة تواجه العقبات المادية الأخرى- وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية، والعنصرية والطبقية، والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة.. وهما معًا- البيان والحركة- يواجهان الواقع البشري بجملته، بوسائل مكافئة لكل مكوناته.. وهما معًا لابد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض.. الإنسان كله في الأرض كلها.. وهذه نقطة هامة لابد من تقريرها مرة أخرى!
إن هذا الدين ليس إعلانًا لتحرير الإنسان العربي! وليس رسالة خاصة بالعرب!.. إن موضوعه هو الإنسان.. نوع الإنسان.. ومجاله هو الأرض.. كل الأرض. إن الله سبحانه ليس ربًا للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم.. إن الله هو رب العالمين.. وهذا الدين يريد أن يرد العالمين إلى ربهم؛ وأن ينتزعهم من العبودية لغيره. والعبودية الكبرى- في نظر الإسلام- هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر.. وهذه هي العبادة التي يقرر أنها لا تكون إلا لله. وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادعى أنه في هذا الدين. ولقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي صار بها اليهود والنصارى مشركين مخالفين لما أمروا به من عبادة الله وحده..
أخرج الترمذي- بإسناده- عن عدى بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام. وكان قد تنصر في الجاهلية. فأسرت أخته وجماعة من قومه. ثم منّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها. فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحدث الناس بقدومه. فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقه أي عدي صليب من فضة وهو أي النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله}.. قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: «بلى! إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام. فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم».
وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول الله سبحانه، نص قاطع على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين، وأنها هي اتخاذ بعض الناس أربابًا لبعض.. الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه، ويعلن تحرير الإنسان، في الأرض من العبودية لغير الله..
ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في الأرض لإزالة الواقع المخالف لذلك الإعلان العام.. بالبيان وبالحركة مجتمعين.. وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعبد الناس لغير الله- أي تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه- والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى البيان واعتناق العقيدة بحرية لا يتعرض لها السلطان. ثم لكي يقيم نظامًا اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا يسمح لحركة التحرر بالانطلاق الفعلي- بعد إزالة القوة المسيطرة- سواء كانت سياسية بحتة، أو متلبسة بالعنصرية أو الطبقية داخل العنصر الواحد!
إنه لم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته.. ولكن الإسلام ليس مجرد عقيدة. إن الإسلام كما قلنا إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد. فهو يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر وعبودية الإنسان للإنسان.. ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحرارًا- بالفعل- في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم- بعد رفع الضغط السياسي عنهم وبعد البيان المنير لأرواحهم وعقولهم- ولكن هذه الحرية ليس معناها أن يجعلوا إلههم هواهم؛ أو أن يختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيدًا للعباد! وأن يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله!.. إن النظام الذي يحكم البشر في الأرض يجب أن تكون قاعدته العبودية لله وحده؛ وذلك بتلقي الشرائع منه وحده. ثم ليعتنق كل فرد- في ظل هذا النظام العام- ما يعتنقه من عقيدة! وبهذا يكون الدين كله لله. أي تكون الدينونة والخضوع والاتباع والعبودية كلها لله.. إن مدلول الدين أشمل من مدلول العقيدة. إن الدين هو المنهج والنظام الذي يحكم الحياة وهو في الإسلام يعتمد على العقيدة. ولكنه في عمومه أشمل من العقيدة.. وفي الإسلام يمكن أن تخضع جماعات متنوعة لمنهجه العام الذي يقوم على أساس العبودية لله وحده ولو لم يعتنق بعض هذه الجماعات عقيدة الإسلام..
والذي يدرك طبيعة هذا الدين- على النحو المتقدم- يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف- إلى جانب الجهاد بالبيان- ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية- بالمعنى الضيق الذي يفهم اليوم من اصطلاح الحرب الدفاعية- كما يريد المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام هجوم المستشرقين الماكر أن يصوروا حركة الجهاد في الإسلام- إنما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير الإنسان في الأرض. بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري؛ وفي مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة.